فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما بيّن لهم عليه السلام عظمة الله تعالى بين لهم طريق الرجوع إليه بقوله: {فاستغفروه}، أي: آمنوا به: {ثم توبوا إليه} من عبادة غيره؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد مرّ مثل ذلك: {إنّ ربي قريب} من خلقه بعلمه لكل من أقبل عليه من غير حاجة إلى حركة: {مجيب} لكل من ناداه لا كمعبوداتكم في الأمرين. ولما قرّر لهم عليه السلام هذه الدلائل.
{قالوا} له: {يا صالح قد كنت فينا مرجوًا قبل هذا}، أي: القول الذي جئت به لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد، فإنك كنت تعطف على فقيرنا وتعين ضعيفنا وتعود مرضانا، فقوي رجاؤنا فيك أن تنصر ديننا فكيف أظهرت العداوة؟. ثم إنهم أضافوا إلى هذا التعجب الشديد فقالوا: {أتنهانا أن نعبد ما} كان: {يعبد آباؤنا} من الآلهة، ومقصودهم بذلك التمسك بطرف التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف، ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إنّ هذا لشيء عجاب} (ص). ثم قالوا: {وإننا لفي شك مما تدعونا إليه} من التوحيد وترك عبادة الأصنام: {مريب}، أي: موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين، والرجاء: تعلق النفس بمجيء الخير على جهة الظنّ، ونظيره الأمل والطمع، والنهي: المنع من الفعل بصيغة لا تفعل. وقولهم هذا مبالغة في تزييف كلامه: {قال} صالح عليه السلام مجيبًا لهم: {يا قوم أرأيتم}، أي: أخبروني: {إن كنت على بيّنة}، أي: بيان وبصيرة: {من ربي} وأتى بحرف الشك على سبيل الجزم ليلائم الخطاب حال المخاطبين: {وآتاني منه رحمة}، أي: نبوّة ورسالة: {فمن ينصرني}، أي: يمنعني: {من الله}، أي: عذابه: {إن عصيته}، أي: إن خالفت أمره في تبليغ رسالته والمنع عن الإشراك به: {فما تزيدونني}، أي: بأمركم لي بذلك: {غير تخسير}، أي: غير تضليل. قال الحسن بن الفضل: لم يكن صالح في خسارة حتى يقول فما تزيدونني غير تخسير، وإنما المعنى فما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة. ولما كانت العادة فيمن يدعي النبوّة عند قوم يعبدون الأصنام أن يطلبوا المعجزة وأمر صالح عليه السلام. هكذا كان يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة، فدعا ربه فخرجت كما سألوا. أشار إليها بقوله: {ويا قوم هذه ناقة الله} وإضافتها إلى الله إضافة تشريف كبيت الله: {لكم آية}، أي: معجزة من وجوه: أحدها: أنه خلقها الله تعالى من الصخرة. ثانيها: أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق الجبل عنها. ثالثها: أنه تعالى خلقها حاملًا من غير ذكر ثم ولدت فصيلًا يشبهها. رابعها: أنه تعالى خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة. خامسها: ما روي أنه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر. سادسها: أنه كان يحصل منها لبن كثير فيكفي الخلق العظيم به، فكل واحد من هذه الوجوه معجز قويّ، وليس في القرآن إلا أنّ هذه الناقة كانت آية معجزة، وأمّا بيان أنها كانت آية معجزة من أي الوجوه فليس فيه بيانه.
تنبيه: آية نصب على الحال وعاملها معنى الإشارة ولكن حال منها تقدّمت عليها لتنكيرها ولو تأخرت لكانت صفة لها فلما تقدّمت انتصبت على الحال ثم قال لهم: {فذروها}، أي: اتركوها على، أي: حالة كان ترككم لها: {تأكل} مما أرادت: {في أرض الله} من العشب والنبات فليس عليكم مؤنتها فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرّهم؛ لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها ثم إنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر فإنّ الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه بل يسعى في إخفائها وإبطالها بأقصى الإمكان، فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها فلهذا احتاط وقال: {ولا تمسوها بسوء}، أي: بعقر أو غيره ثم توعدهم بقوله: {فيأخذكم} إن مسستموها بسوء: {عذاب قريب}، أي: في الدنيا لا يتأخر عن مسكم لها إلا يسيرًا وذلك تحذير شديد لهم في الإقدام على قتلها فخالفوه.
{فعقروها} وذبحوها: {فقال} لهم عند بلوغه الخبر: {تمتعوا}، أي: عيشوا: {في داركم} والتمتع التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس وذلك لا يحصل إلا للحي. وفي المراد من الدار وجهان: أحدهما: البلد وتسمى البلد الديار لأنه يدار فيها، أي: يتصرّف فيها، يُقال ديار بكر لبلادهم. الثاني: دار الدنيا، أي: تمتعوا في الدنيا: {ثلاثة أيام} وذلك أنهم لما عقروا الناقة أنذرهم صالح عليه الصلاة والسلام بنزول العقاب بعد هذه المدّة قال ابن عباس: إنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان ثم قالوا لصالح عليه السلام وما علامة ذلك؟ قال: تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة وفي الثاني محمرة وفي الثالث مسودّة ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع، فلما رأوا وجوههم مسودّة أيقنوا حينئذٍ بالعذاب فتحنطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع كما قال تعالى: {ذلك}، أي: الوعد العالي الرتبة في الصدق: {وعد غير مكذوب}، أي: فيه فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله: ويومٍ شهدناه أي ورب يوم شهدنا فيه سليمًا وعامرًا. أو غير مكذوب على المجاز أو وعد غير كذب على أنه مصدر قوله تعالى: {فلما جاء أمرنا نجينا صالحًا والذين آمنوا معه برحمة منا} في تفسيره، وقراءة الهمزتين وعدد الذين آمنوا معه مثل ما تقدّم في قصة عاد: {و} نجيناهم: {من خزي يومئذ} وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلهم أو فضيحتهم يوم القيامة. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم من يومئذ على البناء لإضافتها إلى مبني، وكسرها الباقون على الإعراب والأوّل أكثر: {إنّ ربك هو القويّ} فهو يغلب كل شيء: {العزيز}، أي: القادر على منع غيره من غير أن يقدر أحد عليه، ثم أخبر تعالى عن عذاب قوم صالح بقوله: {وأخذ الذين ظلموا}، أي: أنفسهم بالكفر: {الصيحة}، أي: صيحة جبريل عليه السلام، صاح بهم صيحة واحدة فهلكوا جميعًا أو أتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم في صدورهم فماتوا جميعًا، كما قال تعالى: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين}، أي: باركين على الركب ميتين.
تنبيه: إنما قال تعالى: {وأخذ} ولم يقل وأخذت؛ لأنّ الصيحة محمولة على الصياح، وأيضًا فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث. وقوله تعالى: {كأن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: كأنهم: {لم يغنوا}، أي: يقيموا: {فيها}، أي: ديارهم ولم يسكنوها مدة من الدهر يقال: غنيت بالمكان إذا أقمت به. وقوله تعالى: {ألا إنّ ثمود كفروا ربهم ألا بعدًا لثمود} تفسيره ما تقدّم في قوله تعالى: {ألا إن عادًا كفروا ربهم} (هود) الآية. وقرأ حفص وحمزة ألا إن ثمود بغير تنوين للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة، والباقون بالتنوين للذهاب إلى الحيّ أو إلى الأب الأكبر. ومَنْ نوّن وقف على ألف بعد الدال، ومن لم ينون وقف على الدال ساكنة. وقرأ الكسائي بعدًا لثمودٍ بتنوين ثمود مع الكسر لما مرّ، والباقون بغير تنوين مع الفتح لما مرّ أيضًا. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}
قوله: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا} معطوف على ما تقدّم.
والتقدير: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا، والكلام فيه، وفي قوله: {ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} كما تقدّم في قصة هود.
وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب: {وإلى ثمود} بالتنوين في جميع المواضع.
واختلف سائر القراء فيه، فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع، فالصرف باعتبار التأويل بالحيّ، والمنع باعتبار التأويل بالقبيلة، وهكذا سائر ما يصح فيه التأويلان، وأنشد سيبويه في التأنيث باعتبار التأويل بالقبيلة:
غلب المساميح الوليد جماعة ** وكفى قريش المعضلات وسادها

{هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض} أي: ابتدأ خلقكم من الأرض، لأن كل بني آدم من صلب آدم، وهو مخلوق من الأرض: {واستعمركم فِيهَا} أي: جعلكم عمارها وسكانها، من قولهم أعمر فلان فلانًا داره، فهي له عمرى، فيكون استفعل بمعنى أفعل: مثل استجاب بمعنى أجاب.
وقال الضحاك: معناه: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف.
وقيل: معناه أمركم بعمارتها من بناء المساكن وغرس الأشجار: {فاستغفروه} أي: سلوه المغفرة لكم من عبادة الأصنام: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} أي: ارجعوا إلى عبادته: {إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} أي: قريب الإجابة لمن دعاه، وقد تقدّم القول فيه في البقرة عند قوله تعالى: {فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعى} [البقرة: 186]: {قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا} أي: كنا نرجو أن تكون فينًا سيدًا مطاعًا ننتفع برأيك، ونسعد بسيادتك قبل هذا الذي أظهرته من ادّعائك النبوّة، ودعوتك إلى التوحيد.
وقيل: كان صالح يعيب آلهتهم، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم، فلما دعاهم إلى الله قالوا انقطع رجاؤنا منك، والاستفهام في قوله: {أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} للإنكار، أنكروا عليه هذا النهي، وأن نعبد في محل نصب بحذف الجار: أي بأن نعبد، ومعنى ما يعبد آباؤنا: ما كان يعبد آباؤنا، فهو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة: {وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} من أربته، فأنا أريبه: إذا فعلت به فعلًا يوجب له الريبة، وهي: قلق النفس وانتفاء الطمأنينة، أو من أراب الرجل: إذا كان ذا ريبة، والمعنى: إننا لفي شك مما تدعونا إليه من عبادة الله وحده، وترك عبادة الأوثان موقع في الريب.
{قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} أي: حجة ظاهرة وبرهان صحيح: {وَآتَانِي مِنْهُ} أي: من جهته: {رَحْمَةً} أي: نبوّة، وهذه الأمور وإن كانت متحققة الوقوع، لكنها صدّرت بكلمة الشك اعتبارًا بحال المخاطبين، لأنهم في شك من ذلك، كما وصفوه عن أنفسهم: {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} استفهام معناه النفي: أي لا ناصر لي يمنعني من عذاب الله: {إِنْ عَصَيْتُهُ} في تبليغ الرسالة، وراقبتكم وفترت عما يجب عليّ من البلاغ: {فَمَا تَزِيدُونَنِى} بتثبيطكم إياي: {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} بأن تجعلوني خاسرًا بإبطال عملي، والتعرّض لعقوبة الله لي.
قال الفراء: أي تضليل وإبعاد من الخير.
وقيل: المعنى: فما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم.
قوله: {وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً} قد مرّ تفسير هذه الآية في الأعراف، ومعنى: {لكم آية}: معجزة ظاهرة، وهي منتصبة على الحال، ولكم في محل نصب على الحال من: {آية} مقدّمة عليها، ولو تأخرت لكانت صفة لها.
وقيل: إن ناقة الله بدل من هذه، والخبر لكم، والأوّل: أولى، وإنما قال: {ناقة الله} لأنه أخرجها لهم من جبل على حسب اقتراحهم.
وقيل: من صخرة صماء: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} أي: دعوها تأكل في أرض الله مما فيها من المراعي التي تأكلها الحيوانات.
قال أبو إسحاق الزجاج: ويجوز رفع تأكل على الحال والاستئناف، ولعله يعني في الأصل على ما تقتضيه لغة العرب لا في الآية، فالمعتمد القراءات المروية على وجه الصحة: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} قال الفراء: بعقر، والظاهر أن النهي عما هو أعمّ من ذلك: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} جواب النهي: أي قريب من عقرها.
وذلك ثلاثة أيام: {فَعَقَرُوهَا} أي: فلم يمتثلوا الأمر من صالح ولا النهي، بل خالفوا كل ذلك فوقع منهم العقر لها: {فَقَالَ} لهم صالح: {تَمَتَّعُواْ في دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ} أي: تمتعوا بالعيش في منازلكم ثلاثة أيام، فإن العقاب نازل عليكم بعدها.
قيل: إنهم عقروها يوم الأربعاء، فأقاموا الخميس والجمعة والسبت، وأتاهم العذاب يوم الأحد، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام: {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي: غير مكذوب فيه، فحذف الجارّ اتساعًا، أو من باب المجاز، كأن الوعد إذا وفى به صدق ولم يكذب، ويجوز أن يكون مصدرًا: أي وعد غير كذب.
{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي: عذابنا، أو أمرنا بوقوع العذاب: {نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} قد تقدّم تفسير هذا في قصة هود: {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ} أي: ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة، والخزي: الذل والمهانة.
وقيل: من عذاب يوم القيامة، والأوّل: أولى.
وقرأ نافع والكسائي بفتح {يوم} على أنه اكتسب البناء من المضاف إليه.
وقرأ الباقون بالكسر: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوى العزيز} القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} أي: في اليوم الرابع من عقر الناقة، صيح بهم فماتوا، وذكر الفعل لأن الصيحة والصياح واحد، مع كون التأنيث غير حقيقي.
قيل: صيحة جبريل، وقيل: صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وماتوا، وتقدّم في الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} [الأعراف: 78] قيل: ولعلها وقعت عقب الصيحة: {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} أي: ساقطين على وجوههم موتى قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أي: كأنهم لم يقيموا في بلادهم أو ديارهم، والجملة في محل نصب على الحال والتقدير: مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط: {إِلا إن ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} وضع الظاهر موضع المضمر؛ لزيادة البيان، وصرح بكفرهم مع كونه معلومًا تعليلًا للدعاء عليهم بقوله: {أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ} وقرأ الكسائي بالتنوين.
وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف بما يحتاج إلى مراجعته ليضم ما في إحدى القصتين من الفوائد إلى الأخرى.
وقد أخرج أبو الشيخ، عن السديّ: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض} قال: خلقكم من الأرض.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد: {واستعمركم فِيهَا} قال: أعمركم فيها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد: {واستعمركم فِيهَا} قال: استخلفكم فيها.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد: {فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ} يقول: ما تزدادون أنتم إلا خسارًا.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عطاء الخراساني نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في قوله: {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} قال: ميتين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} قال: كأن لم يعيشوا فيها.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال: كأن لم يعمروا فيها.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: كأن لم ينعموا فيها. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَةِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ وَرَدِّهِمْ لَهَا وَاحْتِجَاجِهِ عَلَيْهِمْ.
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هَذَا نَصُّ مَا تَقَدَّمَ فِي تَبْلِيغِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ قَالَ: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أَيْ هُوَ بَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بِخَلْقِ أَبِيكُمْ آدَمَ مِنْهَا مُبَاشَرَةً، ثُمَّ يُخْلَقُ كُلٌّ مِنْكُمْ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ النُّطْفَةَ الَّتِي تَتَحَوَّلُ فِي الرَّحِمِ إِلَى عَلَقَةٍ فَمُضْغَةٍ فَهَيْكَلٍ عَظْمِيٍّ يُحِيطُ بِهِ لَحْمٌ هِيَ مِنَ الدَّمِ، وَالدَّمُ مِنَ الْغِذَاءِ، وَالْغِذَاءُ الْغَالِبُ إِمَّا نَبَاتٌ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِمَّا لَحْمٌ يَرْجِعُ إِلَى النَّبَاتِ فِي طَوْرٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أَيْ: وَجَعَلَكُمْ عُمَّارًا فِيهَا مِنَ الْعُمْرَانِ، فَقَدْ كَانُوا زُرَّاعًا وَصُنَّاعًا وَبَنَّائِينَ: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} 15: 82 وَقِيلَ: مِنَ الْعُمُرِ، أَيْ أَطَالَ أَعْمَارَكُمْ فِيهَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَاسْتُعْمِلَ الِاسْتِعْمَارُ فِي عَصْرِنَا بِمَعْنَى اسْتِيلَاءِ الدُّوَلِ الْقَوِيَّةِ عَلَى بِلَادِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَاسْتِثْمَارِهَا وَاسْتِعْبَادِ أَهْلِهَا لِمَصَالِحِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ هُوَ الْمُنْشِئُ لِخَلْقِكُمْ وَالْمُمِدُّكُمْ بِأَسْبَابِ الْعُمْرَانِ وَالنِّعَمِ فِيهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَعْبُدُوا فِيهَا غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ صَاحِبُ الْفَضْلِ كُلِّهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أَيْ: فَاسْأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا أَشْرَكْتُمْ وَمَا أَجْرَمْتُمْ، ثُمَّ تُوبُوا وَارْجِعُوا إِلَيْهِ كُلَّمَا وَقَعَ مِنْكُمْ ذَنْبٌ أَوْ خَطَأٌ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي دَعْوَةِ هُودٍ قَرِيبًا وَفِي دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ اسْتِغْفَارِهِمْ، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مُجِيبٌ لِدُعَاءِ مَنْ دَعَاهُ مُؤْمِنًا مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 2: 186 فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُهَا الْمُفَصَّلُ هُنَالِكَ.